حميت الشمس .. و هوازن لا تطيق .. و عائلات هوازن يدركون انه عندما تحمي الشمس من فوقهم .. فانه سيكون عام أشهب .. سيسوده الجدب .. و يحرموا المطر .. و سيتربص بهم الجوع .. فقرر بنو سعد أن يخرجوا .. ان يخرجوا الي مكة .. أهل هوازن بدو .. و بنو سعد من أهل هوازن .. و أهل مكة يحبوا أن يودعوا أطفالهم الرضع عند البدو .. أهل مكة يستحسنوا لغة البدو و يسروا اذا ما نشأ أطفالهم على لسان البدو .. هي اذا شمس حامية واحدة .. ترهق أهل هوازن .. و تدفع أهل مكة الي اخراج أطفالهم الرضع .. حر مكة يتجاوز أي حر .. و وجهاء مكة اعتادوا مرضعات البدو .. يمكث الرضع عندهم حتي حين .. فخرج بنو سعد في ركب يقصدون مكة .. النساء و أزواجهم و أطفالهم .. ترفرف عليهم الآمال .. الا ان الحارث بن عبد العزي لم يرفرف عليه شئ .. فهو ينظر لزوجته و يصمت .. انها تركب على أتون عجفاء .. و باقي النساء يركبن على بغال بادية الصحة .. ينظر لزوجته و يصمت .. فهي نحيلة هزيلة ينظر لذبولها و يصمت .. حتي وصل الركب الي مكة .. هبط الجميع .. وجدوا البيت العتيق رابض بمكانه .. بحجارته العتيدة وأثره الثابت في أنفسهم .. هبط الجميع و طاف به .. و لما فرغوا لبثوا واقفين ينتظروا أشراف مكة و أطفالهم الرضع .. و توزعت النسوة على الأشراف .. يساومون الآباء الأثمان .. و يختاروا الأطفال ذكور ام اناث .. و يضربوا للأهل موعد لرجوع أطفالهم .. أما الحارث فوقف مكانه .. معه حليمة واقفة الي جواره .. تذكر مولودهما الذي تركاه في هوازن .. و تذكر انها مضت دون ان تجد في ثديها ما تطعمه به و صمت .. و راقب كيف يقبل الاشراف على المرضعات و ينصرفن عن زوجته و صمت .. فتحركت حليمة الي الاشراف بنفسها .. و كان امامها رجل مهيب مديد القامة ابيض الوجه مشرب بحمرة حسنه .. و كان يحمل لفة فيها رضيع و من وراءه سيدة يشع من وجهها نور لولا مسحة حزن باقية .. فلما دنت منه قال
"من انت"
قالت
"امرأة من بني سعد"
"ما اسمك"
"حليمة"
فقال
"بخ بخ سعد و حلم خصلتان فيهما خير الدهر و عز الأبد .. يا حليمة ان عندي غلاما"
قالت
"أنت أبوه"
قال
"لا .. أبوه قد مات"
صاحت
"يتيم"
فاهتزت المرأة التي كانت تقف على مقربة منهم
و أضافت حليمة
"انما نرجو المعروف من أبي الولد .. فأما أمه فماذا عسي أن تصنع الينا"
و لما سمعت المرضعات كلمة يتيم لاحظ الحارث ان كل المرضعات صرن يتجنبن الرجل المهيب بل و أخذن يرددن فيما بينهن كلمة يتيم .. و المرأة التي تقف على مقربة من الرجل المهيب و التي بدا و أنها أم الرضيع ينمو الأسي على وجهها .. و عرف الحارث في وجه الرجل أنه عبدالمطلب سيد بني هاشم .. فاندهش من علو مكانته و ما يلقاه الآن من اعراض و رضيعه من سخرية مكتومة .. و مضي الوقت و تأهب الركب للرحيل .. للعودة الي هوازن .. و قد حملت كل مرضعة رضيعا يكفل لها رزقا .. كلهن ماعدا واحدة .. فنظر الحارث الي النساء و من في أيديهن و نظر الي زوجته و الي ذراعيها الخاليين و صمت .. و نظرت حليمة الي الرجل المهيب و اذا برضيعه معه و نساء بني سعد كلهن في الركب .. لقد نبذوا اليتيم اذا .. نظرت لزوجها و قالت
"والله اني لأكره ان ارجع من بين صواحبي ليس معي رضيع .. لأنطلقن الي ذلك اليتيم"
و هبت حليمة الي السيدة التي اكتمل الأسي على وجهها لتتسلم منها الرضيع .. فعرفت حليمة ان السيدة من أشراف آل وهب و ان الرضيع الذي عرف باليتيم ولد منذ ثمانية ايام فقط .. تسلمت حليمة الرضيع في لفته وقد كان في ثوب صوف ابيض و قد راح في سبات .. فتناولته برفق خشية ان توقظه .. و لكنه فتح عينيه .. فدهمها حسنه و صدمها .. و وجدت نفسها تميل عليه فتقبله .. نظر الحارث الي زوجته و تمتم
"عسي ان يجعل الله لنا فيه بركة"