نظر الي خادم الكنيسة غير مصدق .. غير مصدق ما يسمع .. الراهب يعلم جيدا ان خادم الكنيسة عندما يتبرم وجهه لا يتلفظ الا بالحق الجارح .. و الخادم غير بارع في اختيار آونة تبرمه .. و لقد وطن الراهب نفسه على حسن الاستماع اليه حتي في احلك اللحظات لأن ما يتفوه به الخادم يندر الحصول عليه من غيره
مر صباح الأحد في هدوء معتاد حتي حل ميعاد القداس المنتظر .. اكتظت الكنيسة بأتباع المسيح .. القاعة الرئيسية و كراسيها المصفوفة .. الجوانب الرحبة و المساحات الخالية .. حظيت كل النقوش و الرسوم و التماثيل التي تحكي حياة المسيح و البتول بأعين مرهفة متأملة .. كما حظي قداسه بآذان خاشعة خاشية .. و رفع الحاضرون جميعا الي السماء بحات نشيجهم و عذوبة دعاءهم .. و دنا من الراهب كل مخطئ يسكب اعترافه او ينهل من الماء المقدس .. كما دنا من الراهب كل محب للمسيح يسأل كيف يرضيه و كل مغرمة بالبتول تسأل كيف تحاكيها .. و أفاض الراهب على الجميع غير باخل و لا ممتعض .. و كان يلمح الخادم يمسح التراب هنا او يعاون عجوز في السير هناك .. و لكنه ما اطمئن ابدا لتبسمه المصطنع .. و عزم على التوجه اليه فور انفضاض الوقت الروحي الأسبوعي .. ليفتش عما وراء وجهه
" هل تعرف هؤلاء .. ما تعرفهم .. انت تتجمع و اياهم في يوم .. تلقي العظة .. تمنح الغفران .. توزع البسمة .. تربت على الكبير و الصغير .. انت طيلة الاسبوع منشغل في التنقيب داخل الكتاب المقدس .. و الشرود مع صور البتول و تماثيل المسيح .. عندما تمل تخرج الي الساحة تملي عينيك بصفاء السماء .. و قبل النوم تتفقد انوار النجوم و هالة القمر المضئ .. لتنتصب على المنصة في يوم داخل الزي الكهنوتي تحيط بك المباخر و تسرد ما عصر فؤادك طيلة الاسبوع في حديث مؤثر .. انت راهب طيب .. أتيت من صلب عائلة طيبة .. و حظيت بتوجيه من البابا و هو رجل طيب ايضا .. ولكنكما تنظران للعالم بعين حمراء دامعة نادمة على خطايا البشر طامعة في ملكوت الرب .. و أجسادكم محاصرة في دير مغلف بالخشوع .. يقربه المجرم فاذا دخله انتحب نادما و استحال ملاكا بجناحين .. ماذا تعرفه انت عن هؤلاء .. اقول لك انا .. فانا منهم .. ان الرجل منهم يجلس بين يديك في حزن و ينكس رأسه في ندم و يبدي الدموع من التقصير في حق الرب .. يديه بين جنبيه هادئتين و لسانه نائم بين فكيه و ما بين فخذيه مستور بعناية و اناقة و عقله يسترجع ما تطاير من المزامير و ما في جيبه يرضي به و يقنع و باله رابض في بساتين الامان و الوداعة .. و المرأة منهم تقعد ساهمة ترتسم على وجهها الحسرة من حياتها البعيدة عن مسلك البتول و توصد فمها باحتراف الخاشعين و تتعثر الكلمات اذا خرجت و اذا اتمت جملة تلون وجهها بالحمرة من شدة الخجل .. تسدل على صدرها مايخفي معالمه و تستر كل شبر من جلدها مرورا بما بين فخذيها حتي كعوب الاقدام .. أذنها تنصت و فكرها يرشد .. الطفل منهم تنطفأ أطرافه و تسكن تحركاته و يلزم مقعد واحد و يطيع الغريب قبل القريب و يقبل القدم قبل اليد و لا تسمع له صوت الا الهمهمة .. يكاد لا يفرق بينه و بين صور الكنيسة الا ان يرتفع عن الارض طائرا .. و العجائز يتشحون بالمسكنة و يبدون الضعف و يلفوا على وجوههم تعابير الاسي .. يربتوا على الرائح و الغادي و يتكلفوا الدموع و يقوصوا ظهورهم عمدا و يتفننوا في اظهار تراكم حكمهم .. و الشباب منهم اذا حضر ينتبه للسانه و يحرص على اتجاه نظراته و يخفي ما يقيم في جيبه و لا يجد حرجا في تقبيل يد والديه جهرا و يتذلل الي العجائز و يهب من وقته لعونهم عن طيب خاطر .. أرأيت ملائكتك .. أرأيتهم كل سبت و هم ملتحفون بعظات المسيح و طهارة البتول .. أما انك لوعتبت خارج هذا الدير لوجدت اختلافا عظيما .. لست اتهمهم .. و لكن راقب بنفسك .. انت تقريبا تعرفهم كلهم .. اما انك لو رأيتهم في يومهم العادي بعيدا عن الدير و بعيدا عن عظتك .. لألفيت بشر غير البشر .. و حقائق غير الظاهرة .. و حياة تحت سماء لا علاقة لها بيوم تحت الصليب .. انت رجل طيب .. تلقفك رجل طيب .. و هو قد أفلح فيما صنع .. الان انا انصحك ان تفلح فيما آل اليك .. أيها الراهب .. الورق و حبره و صمغه و حروفه و صفحاته شئ .. و النهار و الليل و تعاقبهما شئ آخر .. أيها الراهب الطيب .. انت ملئ بحب المسيح و أمه .. الناس لا تذكر المسيح و أمه الا ساعات قلائل في يوم واحد بالاسبوع .. أيها الراهب الطيب .. هل فهمتني "
أيها الخادم الصادق .. لقد زرعت الغم بداخلي
اندهش الراهب ذو الوجه الرحب و السمت المريح و العينين الحمراوين .. ربما كان ما انتابه اكثر من الدهشة بقليل .. او ربما بكثير .. او ربما أسرته حالة من الدهشة لم تزايله ابدا .. ذرع الدير ذهابا و جيئة .. مشي في القاعة و السراديب و الغرف و الحديقة و على حدود السور و صعد الي الصليب و هبط الي المخزن و اعتلي المنصة و جلس على الكراسي و حدق في الصور و التماثيل و نظر الي الارض و دار بصره في الافق .. عزفت معدته عن اللقيمات و الشراب و سخنت رأسه و عمت بصيرته الفوضي و دهس ايمانه احباط وافد .. انثالت على رأسه ذكريات من سنون خلت .. كيف قابل البابا و أين .. كيف نظر اليه .. كيف ألان الحديث .. كيف ضمه الي صدره .. رغم انه ضبطه في حالة من الدنس .. كيف وصل صمته الي قلبه .. و كيف استقبله في الكنيسة .. و كيف رحب .. و كيف كان يباشره ببسمته الرائعة .. كيف اتخذ الراهب قراره بأن يكرس نفسه للرب .. ثم تذكر كيف كان ينشد الخطية بحرص .. و يدأب عليها في انتظام .. و يسول لنفسه انه على امتع درب .. و تذكر المعلم الاكبر .. كيف بعث .. و كيف التف حوله حواريوه .. و كيف خاطب الناس ببيت المقدس .. و كيف عبر عن شريعته .. و كيف تسامح مع الجميع حتي صالبوه .. تذكر و تذكر و تذكر
توقف امام المرآة .. و طالت وقفته .. و تتابعت الذكريات .. و لمحه الخادم .. و بعد ان انصرف لشئونه و عاد ليطمئن عليه ما كاد يصدق ما يري .. لقد كان الراهب يحلق لحيته الكثة و يهندم شعره الأشعث ليجرده من العمامة السوداء و يخلع الصليب من فوق صدره و يزيح عصاه القصيرة الي ركن قريب و كان يخرج من الزي الكهنوتي و يدخل في زي لا يختلف عن ملابس اي رجل في المدينة .. كان مشهد اسطوري للخادم .. لقد عكف الخادم على خدمة الكنيسة أمدا طويلا و منح جهده لراحة رهبانه و قساوسته منذ زمن بعيد .. و لقد رأي عن قرب كل راهب و قسيس نزل بهذا الدير و اقترب من حياتهم الشخصية و استوقفته عيوبهم المقززة و لمس مميزاتهم المبهرة .. و لقد ظن الخادم ان هذا الراهب هو أخلص من جاء و أكثرهم قربا من الرب و حفظا للاناجيل و فهما و أحسنهم صوتا و أشجعهم في قول الحق و أمهرهم في الحث عليه و أقلهم جبنا مع الحاكم و أعلاهم عزة مع العلية .. و ربما لم يري ما يسوئه اللهم الا طول الشرود و كثرة تحديقه للسماء دون هدف و في اوقات ينبغي فيها النوم و الراحة .. و قر في بال الخادم انه أكملهم و بعد طول ترصد يأس من التقاط تصرف نزق او طائش منه و تناسي انه سيخطأ .. حتي رآه أمرد الوجه في احقر الثياب .. ظل صامتا و هو يراقب الراهب من بعيد .. أتراه يمارس حياة أخري مع الرهبنة .. أم انه سيتخلي عن هذه الحياة و يرحل .. هل سيسرق شئ وهو راحل .. ام ربما سيقتله ثم يتفرغ لجمع المغانم من الكنيسة ثم يرحل .. فزع الخادم و هم باحضار خنجر قديم كان يحفظه في غرفته و عاد يراقب الراهب الذي جن او فسد .. عينا الخادم تراقب خطوات الراهب الواثقة باتجاه الباب .. يد الخادم متحفزة للدم .. و باله يلد كل الاحتمالات .. حتي حلت لحظة صمت جديدة .. أغلق الراهب فيها الباب بعد ان انصرف .. و بقايا ما خلع عند المرآة .. أكان رجل مخبول .. تفسير منطقي
*
الخادم يستيقظ مع زقزقة العصافير الاولي .. يستقوي الضياء على الظلام الذي ساد .. و يشيع في المدينة كلها هدوء محبب .. يعرض سطح الكنيسة كلها للماء البارد .. ثم يمرر الصابون على كامل السطح .. ثم يجفف السطح الذي بات لامعا بفتح كل النوافذ الصغيرة و العملاقة .. تتألق الكنيسة بالنسيم المنعش و تفوح فيها الروائح الذكية .. و في احدي الصباحات صدم اذن الخادم صوت الباب يفتح بقوة و خطوات تعرف عليها جيدا .. سارت في عجل و قصدت غرفة بعينها .. فتحتها و دخلتها ثم جلس صاحب الخطوات على السرير .. أنهي الخادم عمله الصباحي بكل تؤدة ثم توجه بارد الاعصاب الي الغرفة ليري الراهب المخبول الذي عاد بغتة كما تبخر بغتة .. أراد ان يسأله عن تفسير لصنيعه .. أو رغب في رؤيته ليطلع عليه و يحدد من وجهه هل هو مخبول فعلا فيطرده و يعنفه كما يفعل مع الصبية العابثون أم ان طارئا حل عليه و دفعه لما أقدم عليه
أحكم الخادم الوجه الصلد و فتت اي أمارات اهتمام على وجهه و أخرج صوته المبحوح الناهر و دخل على الراهب .. و لكن بصر الخادم وقع على رجل يلف يديه على وجهه و الدموع تفيض من خلالهما .. رجل منزوي على حافة السرير .. رجل أجهش في البكاء حتي ان صوته دفع الخادم الي ان يذهب حتي كتفيه ليربت عليه ثم انصرف تاركا الراهب لهمه الذي اختار ان يستفهم عن كنهه فيما بعد .. و تساءل الخادم .. هل كان لهذا الرجل علاقة بما حاق بالكنيسة في الأيام السالفة .. و لكنه اختار أن يفصح عن تساءله هذا أيضا فيما بعد
*
لن يسأل كيف .. لن يطاوعه قلبه ان ينطق السبب .. انهم يبادرون كل أحد بالامتثال امام الرب .. و يتسابقون باقي الايام في عصيانه .. و كأن الأيقونات سراب و التماثيل المحدقة و الرسوم و النقوش صنعت للتسلية و التسرية .. و كأن الكلام الذي يلقيه كل اسبوع ينساب الي الاآذان و سرعان ما يسقط من الاذن الأخري صريعا على ارض الكنيسة تدهسه اهون قدم .. انه لو كان اصابهم مثقال ذرة من حب المسيح ما كانوا ليتصرفوا كيفما رأي بأم عينيه .. هو الذي شاب تصديقه للخادم الكثير من الشك .. هو الذي تسلم الكلمات في رأسه و أعمل فيها بحثا وأمضي في عمقها وقتا ليستخلص الوسيلة التي يؤكد بها زعم الخادم او ينفي ..
هناك أخاديد داخل صدر المرء .. و الصدر غائر .. و الأخاديد صاعدة و هابطة و موحلة و رائقة .. و من العمق البعيد في وسط الصدر الذي تواريه طبقات من ركام الاجتماعيات و تراب التغيير الشخصي الطارئ تصنع كرة .. كرة محلقة .. من فوهة الروح .. مصنوعة من كل نسيج مجدول في الانسان و مسئولة عن كل همسة تند عنه .. كرة طافية على سطح القرارات و التفكيرات .. كرة تصنع داخل مركز الصدر .. تكتسب برودة مع الزمن و لقاء احداث باردة او تلتهب سخونة تبعا لطبيعتها المقاومة .. كرة تنبعث منها حرارة .. حرارة تشيع نفسها بالعنوة المرغوبة داخل الجسد خلية خلية .. عضو عضو .. او برودة تطمس الجسد كله خلية خلية او عضو عضو .. و الناتج فرد تعكس تقطيبته برودة الكرة الغائرة او فرد توحي بشاشته بلسعة الكرة التي فاضت وهجها على العالمين .. هو نزل بقدميه و باشر بعينيه و اختبر بعقله كل ما ينعكس من هؤلاء .. هؤلاء ينزفون برودة .. ان من يحاول ان يتوهج سرعان ما تغطيه برودة من حوله و هم كثر ..
*
ثم فوجئ الناس برجل أمرد مهيب البنيان طويله و عريضه يباغتهم ببسمة صافية .. و ينقض على صدورهم .. يحتضنهم .. يلبث الرجل واقفا و ذراعيه العملاقين تحوطان المرء .. يحاول المرء ان يزجر بادئ الامر .. يعكس جسد الرجل عدم الخوف من اي زجر .. فيحاول المرء ان يتفلت من ذراعيه .. ثم يتضح من حجم بدنه انه لا طائل .. فيستسلم المرء منتظرا الموت مخنوقا او منتظر اي شر آخر لم يكن في الحسبان .. تمر الدقائق .. يبدأ الرجل المهيب في التربيت .. بحنان عارم .. و كأنه أنثي مدربة .. و سرعان ما تند عنه همهمة .. خالية من الكلمات و لكن ملؤها شجن .. و تزداد ضمة الرجل المهيب .. و ازاء هذا كله يتلاشي الحذر و تهب نغمة داخلية من الاعماق تسري في الوجدان و امام دفء الرجل المهيب تنساب في ارجاء الجسد .. و يتحول المرء الي طفل مطيع و يتعلق هو بالرجل المهيب .. ثوان تنقضي و تظهر الدموع الخفية وهي تتدحرج على جوانب الوجه .. تمسح بسرعة سترا .. و لكن النشيج يعلو شيئا فشيئا .. حتي يضارع صياح الباعة و ضجيج المارة .. يستوقف الصوت البعض .. يرمق المشهد الفريد بمعالم غير واضحة .. أهو حقيقي ما يري .. ام ان العين تخلت عن بصرها و أسدل العقل خبله .. يربت المرء في النهاية على الرجل المهيب .. بمنتهي الانكسار .. و الرغبة الشديدة في الندم .. و يطفح الأسي من الصدر .. يفترق الرجل المهيب و يتناول اول رجل يجده قبالته .. و المرء الذي كان محتضن يتناول اول رجل امامه .. تتكرر القصة .. و لسبب جهله الناس .. تحول السوق و ممر المشاة و مداخل الحوانيت و مخارج البيوت و غرفها الجهرية و السرية و حدود المدينة الصغيرة الي ساحة عناق و نحيب
*
لم يصل يوم السبت بعد .. بل لم ينتهي الجمعة .. الراهب الهارب لم يعد بعد .. ولكن ما هذا الصوت الذي يقترب و كلما اقترب علا .. من الجائز ان جاء جثمانه ملفوف محمول على الاكتاف .. افتضح هاربا المسئ للكنيسة .. فضحه الرب مطهر بيته .. فسلط عليه من أجهز عليه و أنهاه .. اتري يعلم الجمع انه مذنب .. ام يحملونه و الحزن يكللهم .. و هم ظانون ان من فوق اذرعتهم رجل برئ السيرة نقي السريرة كل ما جناه كانت نزهة خارج اسوار الكنيسة .. الافضل ان ادفنه و سره الشنيع في تابوت بعيدا عن هنا .. و لن افشي هذا السر الا الي راهب آخر يأتي أراه قد حبب الناس في الكنيسة كما كنت أعتقد ان هذا الرجل الهارب قد يفعل .. الافضل ان اسارع للباب و ارحب بالجمع و أعزيه .. الافضل ان افتش عن تابوت مناسب .. الافضل ان اكفكف الدمع و اهدئ الروع لتمر ذكراه في هدوء لكيلا يتعلق به الناس .. الافضل ان اكون محايد مع الراهب القادم .. الافضل الا اتمني او انتظر منه خيرا كما توسمت فيه
*
صار الجسد معروفا .. هو يدنو اذا هو سيكرر ما يفعله يوميا .. نهارا و ليلا .. مع كل فرد يمر امامه .. او يعبر به جالسا .. او يسير امام بيته .. الجسد المفتول ذو وجه حاني شديد الهدوء .. ترتسم ابتسامة حقيقية لا اصطناع فيها و لا تكلف .. بسمته تنعكس على جسده كله .. يشع بهجة .. من بعيد و للقريب على حد سواء .. يقترب منك .. يسدد نظرة ودودة الي حدقتيك .. لا تستطيع ان تفلت منها .. تبادله النظر ثوان .. تتلقي منه البهجة .. ينتشر في صدرك سرور مباغت .. و كأن كل ما كنت فيه متردد حسم الآن و كل شكوي نويت الاعلان عنها تبددت الآن و كل ما لطخ صدرك بالحزن قد انجلي الآن .. بخطوات هادئة ثابتة متسرعة تنفتح الذراعين العظيمتين و تختفي الشمس خلف الوجه الحاني و تلفي الرجل يعانقك .. يضمك الي صدره .. يربت على ظهرك بكفه العريضة .. لا تتوقع ابدا ان وجود كف على ظهرك في مثل حركته سيتسبب في هذه الراحة التي تنبعث بصدق من داخلك .. ثوان و تجد رأسك تتوسد كتفه في منتهي الوداعة .. و هو لا يزعجك ابدا .. اينما مالت رأسك لا يتململ .. و كلما بدأت تزحف بعيدا و تشعر بأن الوضع الغريب هذا لابد له من نهاية تجده يزيد من الضم و التربيت .. تتأثر بحق .. تذوب في مكنونك أشياء .. تتبخر أشياء .. تتنزل عليك هدوء المحفوف بالملائكة .. و يبرد فؤادك كالمنسجم مع لحن عذب .. و تصفو نفسك كمن يسمع صوت اول صرخة مولوده .. تشيع فيك راحة كمن لمسته محبوبته بعد طول هجر .. و عندما تسترخي عضلات الوجه و تنفك عقدة الحاجبين و تسيل البسمة من الشفتين الي الاعضاء .. يبتعد الرجل الضخم بمنتهي الأريحية .. و ينسحب في سكون .. فتعود الشمس الي الافق .. و يداعب الهواء الرأس الذي تبدل .. و ينشرح البصر فتتلون الموجودات بلون الرضا
*
هل نزل المسيح ارضنا .. هل جالت البتول بينهم .. هل تمشت الملائكة في الارجاء .. الجمع كل الجمع يدنو من باب الكنيسة و على وجوههم السلام و الامان و الرغبة القوية الصادقة في الصلاة .. هل تضئ الشموع ليل ليس بليل الاحد .. هل تعلو التراتيل في يوم تسوده السكون .. ام حاقت بهم مأساة أطاحت بصلفهم و أسقط في وعيهم .. مالي أري الجمع في لهفة المارق الذي مسته البشارة فهرع للعبادة .. اي جديد حل .. بل اي جديد حل على كل فرد منهم .. ما الذي قاد القلوب الي الكنيسة .. ما الذي أرغم الناس على ترك شئونهم و امرهم بالتفرغ من اجل ملء الكنيسة .. أهي نهاية العالم فطن اليها أحدهم فأفاقوا الي ملاذهم .. ام ربما بداية غير مرتقبة جعلتهم يعيدوا التفكير .. طيلة مكوثي بين هذه الجدران و طيلة خدمتي للرهبان و طيلة عنايتي بعامري الكنيسة لم أشهد مثل هذا الاقبال المريب .. ايكون انصراف الراهب الضخم على صلة بما تبصر عيناي .. هل ولي و صحبته الشياطين .. هل رفع عن المكان الغضب و رفرفت الملائكة .. سؤال سيضنيني ابدا ما حييت .. و لكن الآن الواجب ينتظرني .. هم ضيوف الرب .. و انا الخادم الذي استقبل ضيوفه بالبشر و السعادة .. أينما كنت أيها الراهب الضخم .. لا تعود
*
انشغل الراهب باحاطة ذراعيه بالناس .. لم يفطن اليه العديد بعد ان حلق لحيته و تبدلت سيماءه الكهنوتية الي سيماء كمثل اي رجل منهم .. و لكن الناس انقلب حالها .. تلبستهم حالة من الهدوء .. التسامح حل محل عنف اللفظة في التجارة .. البشاشة احتلت الوجوه التي كانت في نفورها آية .. المصافحة صارت عادة بعد ان كان التجنب من شيمهم .. ما عاد ينقص هؤلاء القوم الا الرقص في السير و لولا الحياء لفعلوا .. أغلقت بيوت البغاء بلا عناء كبير .. و مقاعد الدخان و مواخير الخمور أصبحت كالصحراء و بارت تجارتها .. الألسن تلوك محاسن الرب يسوع و نقاء سيرة البتول .. ما ان تري رهط متجاورين و تقترب منهم لتتسمع حديثهم حتي تجدهم في أنس الكتاب المقدس .. استساغ الحياة من كان عنها معرضا .. و تفاءل من كان ساخطا .. و تعلقت الأرجل بالكنيسة يزورونها يوميا .. و كلما مر الرجل الضخم تهللوا .. و بات العناق سمة من السمات التي زايلتها الدهشة
*
و لما دخل عليه الخادم ليوبخه .. اهتز من بكاءه الصامت .. ربت عليه في صمت و خرج .. ان الاقبال الذي صار عادة من الناس لمسه شخصيا و جعله أكثر صبرا في احكامه .. شفع له الناس .. شفعت له الافاقة التي انشقت عنها السماء ذات ساعة .. لم يعد يسأل نفسه ما سر هذه الافاقة و توابعها من الاقبال و البذل للكنيسة .. حتي ان الناس من فرط اقبالهم على العبادة و الرغبة في الاعتراف باتوا يعترفوا للخادم بصبر نافد .. و لأول مرة في تاريخ الخادم صار له عمل آخر يضارع العناية بالكنيسة .. صار يعني برعيتها .. و كلما ألح على الكنيسة الأم بارسال قس جديد .. حدثت متغيرات شاء بها الرب أن يتعطل وصول أي قس جديد .. و صار لزاما على الخادم تلقاء هذا الخشوع العام الجديد أن ينصت للقلوب المرهفة النادمة .. أي خيبة يا راهب يا مصدر الشر الكبير .. لماذا لم ترحل منذ زمن بعيد و شياطينك
*
و لكن الوقت يمر .. مع مروره .. يسقط من الناس خشوعهم .. يكاد يراه طبقات تذيل الحشد الذي يجيئ و يوما بعد يوم يقل العدد .. يذيلهم ثم يفارقهم متهشما على أديم الأرض .. يأسي .. يحزن .. العدد يصير أقل بصورة ملحوظة .. و يشح الوافدون حتي يندروا .. و اذا ما حضر أحدهم .. أعرض عن الاعتراف و تأفف من التماثيل و يكاد يبصق على الطهارة المحيطة .. ماذا حدث
*
لقد ترسخ لديه اعتقاد .. لقد قلب الاعتقاد على جنبيه .. و عندما أعجبه و قر رأيه عليه .. نزل يمارسه .. لا مكان لك أيها الراهب الطيب بين أسوار الكنيسة .. انزل .. اهبط .. تخلي عن عليائك .. انبذ العزلة .. بأي حق تريد لصفوف الكنيسة أن تمتلأ .. لأي سبب تنتظر من الناس الاقبال .. هل نبل المسيح بينهم .. هل صدق البتول حواليهم .. هم تغشاهم الدنيا .. تغطيهم احتياجتهم .. أعمتهم الضرورات .. و أي مكان لملكوت الرب في قلوبهم أو عقولهم .. ولماذا يمر الأمر برمته ببالهم .. أنت غارق في الأناجيل .. تتمحص المفيد من التوراة .. تستحضر عظمة يسوع الرب في قلبك .. و تستجلب القدسية من الأم البتول .. و هم .. مسخرين من أجل لقمة العيش .. كيف دخلت أنت الكنيسة .. كيف انتشلك البابا من سوءات الدنس و عوالم الفجور .. بل كيف كسب المسيح أنصاره .. كيف تشعر من أمامك أنه الأهم .. أنه الأفضل .. أن الرب في ملكوته يريده و يراه و يرعاه و يسهر على راحته هو دون غيره .. ما اسم الشريعة التي أتيت تبشر بها .. أليست شريعة الحب .. ألم يقل معلمك البابا "لا شئ يساوي الحب .. انه يهبك نفسك السليمة" .. أيها الراهب .. لولا لمست حب البابا لك .. لما تركت شعرة مما أنت فيه .. بل ماذا قال معلمنا و مخلصنا يسوع .. تذكر يا مرابط على دفوف الكتب المقدسة
ان الدين بما تعمل لا بما تعلم
ان تحب ربك بجماع قلبك و من كل نفسك و فكرك
من احب كثيرا غفر له الكثير من خطاياه
و أنت أيها الراهب .. كم تعلم .. ان نقوش الكتابة ما ان تمر على عينيك حتي تحفر في ذاكرتك و كأن كاهن مصري بمطرقة يدقها في رأسك .. و لكن بكم عملت .. أنت تعلم الرب و اليسوع و الأم البتول مريم .. كم أحببتهم بجماع نفسك حتي أخرجك حبهم من طينة نفسك .. أنت أيها الراهب .. في زيك الكهنوتي .. و يداك المباركة .. كم أذنبت .. هل تجرأ على حصر خطاياك .. هل تستطيع حملها بثقلها و جناها .. كم أحببت بصدق ليغفر لك ما اقترفت .. حتي الخادم الذي أفضي لك بالسر الذي قلب حياتك رأسا على عقب .. لم يكن ليفضي به اليك الا اذا لم يجببك .. أيها الخادم .. ان كان في العمر بقية .. و ان وسع اللسان الكلام بعد ما حدث و ان وجدت اجابة لسؤالي سأعترف لك بأغلي حكمة تعلمتها من كل ما مضي من عمري .. ان اردت الاصلاح .. فامنح الحب
*
وجد الخادم نفسه في حالة من الضيق .. انغمس في فرحة كبيرة عند الاقبال و سحقته حالة حزن مضنية عندما نفروا كعادتهم القديمة .. وجد نفسه ينزل الي الناس و يسأل ما جري .. ما جري .. جذبه أحدهم من ذراعه .. و حدثه صادقا .. حكي له عن رجل أمرد مهيب عظيم البنيان و الحنان .. منحهم شعور صادق بالحب كما لم يجربوه من قبل .. و ازاء ما فعله .. لم يجد الناس ما يفعلوه سوي حب الرب .. و عندما غاب الرجل غاب ما كان يعتمل في الصدور .. فغابت الرغبة في حب الرب .. اشتعل فضول الخادم .. سأل متي حضر الرجل و متي انصرف عنكم .. صدمته الاجابة .. و عندما سأل أي تغيير طرأ عليه جعله يعرض عن فعله .. قال محدثه .. موقف جليل .. كشر فيه الرجل عن أنيابه .. تحول .. من الحاني الي وحش ربما هو نفسه لم يكن يدرك أنه بداخله .. استمع للموقف .. و أعاد السؤال عن ظهور الرجل و اختفاءه .. فجري فجأة من أمام محدثه و ندم على كثير من الظنون .. و قرر أن يعانق هذا الرجل المبارك
*
أيها الرب .. فكرت كثيرا .. و احترت أكثر .. ماذا حدث .. ماذا جري لي .. أيها الرب .. أنت في علياءك تري كل شئ و تسمع كل شئ .. اسمحلي أن أقص عليك ما جري علي عبدك المخلص .. و تقبل ظني و وجهة نظري .. و أسألك الرشد و النصح و الراحة .. أيها الرب .. مارست ما اعتقدت أنه مرادك من الخلق .. و أخلصت .. و أنت الأدري و الأعلم بخفايا القلوب و بواطنها .. كنت أعانق الناس جميعا .. آمنت أن القبس النوراني الذي أودعته في بالرهبنة أولي أن يذوقه الناس حبا في صدورهم بدلا من ثرثرة أسبوعية .. سامحني ان اخطأت .. و لكني اعتقدت اني أخلصت .. حتي هممت بعناق رجل بدوي .. لم يستوقفني أنه من خارج المدينة .. و لكنه نظر الي و سألني عن ديانتي .. فقلت خادم اليسوع المخلص .. نظر الي في وعيد و صاح .. ألا تعلم أنك كافر .. ألم تسمع ببعثة النبي الخاتم في الجزيرة القريبة منكم .. صاح في الناس .. يا معشر القوم .. هذا رجل كافر .. يؤمن بأن عيسي اله و لقد بعث في الجزيرة القريبة رجل يفند ما يقول .. أيها الرب .. لم أتمالك نفسي .. اجتاحتني رغبة صارخة في قتله .. لم أشعر بالدنيا من حولي الا و قد صفعته على وجهه و الدماء تنتطلق ينبوعا صغيرا من شفتيه .. ركضت بكل ما أوتيت من قوة الي بيتك .. أيها الرب .. أنا أومن بك .. بل و قرأت عمن يقول في كتبك .. و لكن غضبي كان شديد .. لقد رفض ما وددت منحه .. أيها الرب .. لقد فكرت كثيرا .. الأمر ليس يمت بالدين بصلة .. و لكنه يمت لي بمرض قديم .. أيها الرب .. كيف أعانق نفسي .. كيف أمنح نفسي الحب الذي به أتقبل مرادك .. أيها الرب .. لم أجد اجابة .. كيف أعانق نفسي
Posted in: